10 Mei 2010

العامية السودانية و اللغة العربية الفصحى : دراسة مقارنة

بسم الله الرحمن الرحيم
بين العامية السودانية و اللغة العربية الفصحى
(( و ما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب )) هود ، 88.
يطيب لي في هذا المقام أن أحدثكم عن وضع اللغة العربية في السودان ، مقارناً بين العربية الفصحى و لهجاتها العامية ومما يكسب هذا الموضوع أهمية هو أن هذه العاميات السودانية تعتبر نموذجاً للعاميات العربية الأخرى، وهي جميعاً جاء من الجزيرة العربية ، ولها ارتباط وثيق بالعربية الفصحى.
وذلك لأنه كانت هناك هجرات عربية قديمة، إلى البلاد العربية المعروفة اليوم ، وقد تمت هذه الهجرات، قبل الإسلام وبعده. و بالنسبة للسودان فقد تمّت الهجرات إليه من منافذ مختلفة، من الشرق عن طريق البحر الأحمر، ومن الشمال عن طريق وادي النيل (مصر)، كما نزح بعضها من الشمال الغربي ، أو الطريق الليبي الذي كان مصدرًا لكثير من الهجرات القديمة والحديثة ، وقد حمل العرب معهم عاداتهم و معتقداتهم، و لغاتهم ، قبل الإسلام و بعده.
و اللهجات العربية في مجموعها ـ ومن بينها العامية السوادانية ، التي نحن بصدد الحديث عنها مقارنة لها بالفصحى ـتختلف عن اللغة الفصحى فالعربية الفصحى، أو قُلْ لغة قريش، لم تنتشر بين عرب الجزيرة، إلا قبيل الإسلام، وكان كثير من العرب يتعلمها، ولما كان لقريش من السلطان الديني والتجاري، كان للغتهم الزعامة بين اللغات، و كان للقبائل الأخرى لهجاتها الدارجة تتكلم بها في حديثها اليومي ، وإذا ذهب العربي النابه إلى مكة ، و أراد أن يشعر، أو يخطب ، استعمل لغة قريش أهل البلد، و حماة الكعبة و أساطين المال والتجارة ، وهكذا كان دهاة العرب و أذكياؤهم، وإذا عاد الواحد منهم إلى بلده، تحدَّث بلهجته الدارجة.
وهذه اللهجات، لم تكن معربة، وهي تذكرنا باللهجات الدارجة التي يتحدثها العرب اليوم ، ومع ذلك نزل القرآن الكريم ، مراعياً لها مُتَخَيِّراً منها ، الشيء الذي تجلى في الترادف اللغوي ( اشتراك أكثر من لفظ في معنى واحد) فيه.
ولما ظهر الإسلام، نزحت القبائل باسمه إلى البلاد المفتوحة، حاملة معها لغة القرآن الكريم إلى جانب لهجاتهم الدارجة ، و من بينها السودان.
والعربية الفصحى ظلّت قروناً عدة بين عرب السودان لغة عبادة ، أما لغة الأدب و الحديث و الخطابة فهي اللهجة الدارجة وحدها و ساعد على ذلك قلة عدد المتعلمين وضعف الروابط القوية و العصبية والقبلية و صعوبة الاتصال بين الجماعات المتناثرة في أنحاء السودان الشاسعة و هكذا ظلت العربية الفصحى حبيسةً في بوادى السودان حتى أتيح لها أن تتنفس نسيم الحربية في عهد دولة الفُونْج التي ربطت بين أجزاء السودان لما كان لها من نفوذ قوي. ( 15000 – 18000) .
أما عن كيفية انتشار العربية بلهجاتها المختلفة في السودان فمن المعروف في قوانين اللغات أنه إذا نزح غزاة أو مهاجرون إلى بلد ما، اشتبكت لغتهم مع لغة أهل البلد في صراع قد يؤدي إلى انتصار إحدى اللغتين على الأخرى ، فتغدو لغة جميع السكان ، وقد يؤدى إلى بقاء إحداهما إلى جانب الأخرى وقتاً طويلاً على أن اللغات الغالبة لايتم لها الغلب عادة إلا بعد وقت طويل ، قد يستغرق عدة قرون على شريطة أن يكون أصحاب اللغات الغالبة عدد اً كافياً ، يمتزجون بأفراد السكان الأصليين ، ومما يساعد على ذلك أن تكون اللغتان المتنازعتان من مجموعة واحدة ، أو من مجوعتين متقاربتين .
و من ذلك أنه حينما تدفقت أمواج القبائل العربية على السودان الشمالي وجدوا اللغة النُُّوبِيّة سائدة بين السكان ، فوقع حينئذ نزاع بين العربية و النوبية ، و نتيجة لذلك احتلت العربية بعض منا طق النوبية، في حين، ظلت مناطق أخرى محتفظة بالنوبية إلى جانب العربية ، فأصبح لكل واحد منهم لغتان القومية يتكلمها مع بنى جلدته، والعربية يستخدمها مع سائرها الناطقين.
على ضوء قوانين علم اللغة أنه سيأتى وقت تتم فيه الغلبة للعربية في جميع هذه المناطق ، و مع ذلك فالنوبية في أيامنا هذه لاتزال تستعير من العربية ألفاظاً وتراكيب ، حتى أن حوالي ثلاثين في المائة من مجموع ألفاظها مستمدّ من العربية.
ومن اللغات العامية في السودان لغات القبائل ( البجة ) الذين يقيمون إلى تلال البحر الأحمر، من مصر إلى كسلا ( اسم مدينة ) أو مع اتساع رقعة هذه المجموعة
و انتشارها ، فإنها صارعت أيضاً العربية ، و مازلت العربية تشقّ طريقها ، وتضيِّق على هذه اللغة ، و من ذلك نجد أنهم يتكلمون في منازلهم ومجالسهم الخاصة بالبجاوية ( لغة البجا ) ، ولكنهم في المجالس العامة يتكلمون العربية.
وكثير من القبائل كانوا في تاريخ السودان يسعون إلى التكلم بالعربية إلى جانب لغتهم، فتؤثر كل منهما في الأخرى و بعض القبائل في دارفور ضاعت لغتهم الأصلية .
كما نجد أن العربية تسربت أيضاً إلى القبائل الزنجية في جنوب السودان ولقيت منهم ترحيباً وقبولاً، وأصبحت لغة مشتركة بين قبائلهم ، تُعّبر عن مصالحهم الخاصة ، و ما عربية جُوْبا عن الأذهان ببعيدة ، وكان سيكون لها انتشار أكبر لولا مزاحمة اللغة الإنجليزية لها ، ومحاولة جعلها لغة رسمية .
و اللهجات العربية في السودان أو العاميات السودانية كثيرة ومتنوعة بسبب انتشار القبائل المختلفة في أنحاء السودان الشاسعة، ومما يدلل على ذلك ظاهرة الترادف اللغوي، فأنت لاتجده في عامية واحدة ، فمثلاً بعض القبائل تستعمل اللفظ ( سار) بمعنى( مشى) فيقولون : (( سِرت إلى كذا وكذا، بينما تستعمل قبائل أخرى مرادفه ( يمشى ) و لا تسمع عندهم (سار). وكذلك: ( راعى ) بمعنى ( نظر) أو : ( شاف )، تجده في بعض العاميات ، إذ يقول أحدهم (راعِ) ( راعِ) : أي : انظر إليّ.
ويمكن أن نقارن فيما يلي ، بين هذه العاميات السودانية واللغة العربية الفصحى ، لنعرف أوجه الاتفاق و أوجه الاختلاف بينهما ، و ذلك حسب مستويات دراسة اللغة المختلفة ، وذلك كما يلي: فعلى المستوي الصوتي ، نجد أن الأصوات الأسنانية مفقودة في هذه العاميات و هي أصوات : الثاء و الذال والظاء ، فيقولون في : ثلج و ذهب وظُل :تلج و دهب أو ضَهَب و ضُل، كما أنها تفتقد صوت القاف الصوت اللهوي، فيقال في قال: كال وفي قام: كام،فيحولونه إلى صوت الـ ( g ) في اللغة الإنجليزية. وبعض القبائل في كُرْدُفان تجعل الحاء هاء فيقولون: الهمار بدلاً من الحمار، و يجعلون الغين خاءً، فيقولون: خنم في غنم. وبعض الاختلاف في الناحية الصوتية هذه يرجع إلى حذف الصوت فيحذفون اللام في ولد فتصير( وَد )، فيقولون: ( ود فلان ) بدلاً من ولد فلان.
أمّا من الناحية الصرفية ، فألفاظ العامية هي نفس ألفاظ الفصحى مع التحريف أحياناً في ضبط الكلمة. ففي التصغير مثلاً ،يقولون في تصغير ولد وجبل : وِلَيْد و جِبَيْل ، بدلاً من وُلَيْد و جُبَيْل ، و في الجمع يقولون في ولد و قلم : (( أولاد ، أقلام ))و قديماً وُلاد و قُلُمَّة. أمّا في النسب فيقولون : سوداني ، شمالي ، جنوبي ، جَعْلي، مثل الفصحى تماماً وأحياناً يزيدون ألِفاً قبل ياء النسب ، فيقولون شُلْكاوِي ودُنْقُلاوِي وفي المصدر تجد : عِلِم ، فهَم ، كتابة ، شُكُر.
أما عن بناء الجملة ( النحو ) فالكلام هنا أيضاً يتكون من اسم و فعل و حرف كما قال ابن مالك في الفصحى :
كلامنا لفظ مفيد كاستقم واسم وفعل ثم حرف الكلم
فتجد هنا في كلامهم الجملة الفعلية، والجملة الاسمية و المنصوبات الفصحى و الأدوات الأخرى مرتبة، على النحو الذي نعرفه في الفصحى، ففي المثل السوداني: ( مديت إيدي تحت الصريف جِبْتَ تراب الريف ) لانجد غرابة في الترتيب ، فلا يكلف نقلها إلى الفصحى تغييراً في ترتيب الجملة ، إذ تقول : ( مددت يدي تحت السياج ( الحاجز من الشجر أوالقصب) فجئت بتراب مصر)) (الريف) وهو مثل يضرب للمدعى الكاذب) وهذا يحدث أثناء القصص والأسمار- وتسمع الراوى السوداني، وهو يصف أحد الأبطال، فيقول (( وجَا رَاكِبْلُو فُوْق جَمَلَن أَصْهَب)) فلا تردد في الحكم بأن هذا تركيب عربي، يعنى أن هذا الفارس : جاء راكباً فوق جملٍ أصهب)).
أمّا من الناحية المعجمية الدلالية، فألفاظ العامية تحمل نفس معاني الفصحى، ويمكنك أن تردها إلى أصلها العربي الفصيح، مادة ومدلولاً، فالسوداني يقول ((حَرْدان)) أي : غضبان)) وهو لفظ عربي فصيح، كما يقولون ((دَنْقَسْ فُلان رأسه)) إذا طأطأها، وفي القاموس: الدنقسة : تطأطأ الرأس ذُلاّ وخضوعاً. ويقولون دعَس الشيء إذا ملأه، والدعس ملأ الوعاء، كما فى القاموس. ويقولون: ((فَدَر)) إذا رجع عن غضبه، وأهل البادية يقولون: فدر الفحل( الذكر من الحيوان ) ، إذا رجع عن الضِراب( تلقيح أنثاه ).
كما نجد هنا تطور مدلول الكلمة، فكلمة (( فقيه))،اصطبغ هنا بصيغة محلية فبعد أن كانت تدل على رجل الشرع في العربية الفصحى، حرفت إلى ((فكي)) و صارت تدل على صاحب التعاويذ والعزائم، أو الشخص المنقطع للعبادة ، و كذلك لفظ القرية، فهو في العربية الفصحى يدل على مكان تجمُّع السكَن مطلقاًً صغيراً أو كبيراً، انحصر هنا في المكان الصغير ، فيما يقابل المدينة ، وكذلك لفظ ( شاف ) فهو في العربية الفصحى بمعنى تطلَّع إلى الشيء المحبوب البعيد، و تمناه، ولكنها أصبحت هنا مجرد النظر إلى الشيء يعنى من مترادفات: (رأى ).
و فيما يلي نص من تعبير بالعامية السودانية : (( أُمْبارح ( البارح) مشيت السوق ، وأخدت حاجات كتيراً ، اشتريتْ لي سكّر و قماش ، وجيت راجع بالمواصلات)).
وفيما يلي أمثال بالعامية :
1- ييد على ييد تجدع بعيد.
2- الليد الوحده مابْتُصَفِّق . ( لا تُحْدث التصفيق).
و هذان المثلان في الحث على التعاون بين الناس ، و من هذه الأمثال أيضاً: (( ساعدوه في قبر أبوه دَسَّ المحافير )) . و المحافير آلات الحفر، و هذا مثل في من لم يتعاون مع الناس، و ليس فيه خير. و منها أيضاً : (( بليلة مباشِر ولا ذبيحة مكاشر )) . هذا في من يستقبل الضيف مبتسماً، طلق الوجه ، فإنه مع طعامه البسيط خير من ذلك الذي يقدم الكثير ، و هو عابس الوجه.
و بعد، يتساءل متعلمو العربية ، من غير العرب خاصة من غير المسلمين ، عن أي لغة عربية نتعلم ، من بين هذا الخِضَم الواسع من الفصحى و لهجاتها ؟ والإجابة هنا سهلة ، لأن الخلاف اليوم أصبح محسوماً على ألا مجال للعاميات ، لأنها فقيرة ، و تفرق بين العرب، فبصبر قليل يمكن لمتعلم الفصحى أن يتفاهم مع عامة الناس ، لأنهم يحاولون الاقتراب منه، والتحدث بالفصحى ، خاصة بعد انتشار التعليم ، و لا يهُمَّنّك إذا قالوا : (( صدق الله العظيم ، أم لم يقولوا )).
ومن الطرائف هنا أن أحد الخواجات ( رجل أوربي )، مكث في السودان زمناً طويلاً، ليتعلم العامية، وعند ما ظن أنه فرغ من هذا، قابله أحد العوام، وقال له: (شِكِيْش ياخَوَاجَة) يعنى : إلى أي جهة تذهب ، ولم يفهم الخواجة، و أخذ يردد متعجباً : شكييش ! شكييش ! ومن هنا يصعب تعلم العامية و حصرها، لأنها عاميات كثيرة.
المراجع
1- تاريخ الثقافة العربية في السودان، عبد المجيد عابدين ، ط. 2 ، 1967م.
2- وخصام و نقد ، الدكتور طه حسين ، ط. 4 ، 1967
3- من أصول اللهجات العربية في السودان ، عبد المجيد عابدين ، القاهرة ، 1966

1 komentar:

  1. هذا بحث جيد يستحق الإشادة خاصة وأن المؤلف لا ينتمي لبلد عربي ولكنه أجاد في تأصيل البحث ورده إلى مراجعه فالشكر له وأرجو أن يضيف إلى هذا البحث المزيد من الأبحاث حول تأصيل المفردات السودانية وردها إلى أصولها العربية.

    د. عمر أحمد فضل الله

    BalasHapus